الأحد، 31 مايو 2020

كرونا (( ميرس)) والاستفادة من دروس كورونا (( سارس))

كرونا (( ميرس)) والاستفادة من دروس كورونا (( سارس))

 

 

د. غازي عبد اللطيف جمجوم

كورونا ميرس – متلازمة الشرق الأوسط التنفسية – فيروس جديد لم يكن معروفاً في السابق ولكنه لم يأت من فراغ بل إن قريباً له كان وراء وباء المتلازمة التنفسية، وهو من عائلة الفيروسات التاجية الحادة ((السارس)) الذي ظهر في الصين عام 2003م ثم انتشر إلي 17 دولة، مسببا ذعرا عالميا قبل أن تتم السيطرة عليه بسرعة.

اكتشاف فيروس السارس في الواقع ألقي الضوء بقوة علي عائلة فيروسات الكورونا المعروفة سابقا.

قدرة فيروسات كرونا علي تبادل جيناتها تشكل خطراً كبيراً

وقد كان لاكتشاف سارس أكبر الأثر في تسهيل اكتشاف ميرس بما في ذلك توفير الكواشف المخبرية اللازمة للكشف عن مجموعة فيروسات الكورونا التي ينتمي إليها الفيروسات.

 

لم تقتصر الدروس المكتسبة من اكتشاف سارس علي ذلك بل تعدتها إلي الكثير من النواحي الأخرى التي وجهت تفكير العلماء والباحثين المهتمين بـ ((ميرس)) والتي لا زال يمكن أن تكون لها فوائد أخرى كبيرة في التعامل مع هذا المرض واحتوائه بإذن الله في أقرب فرصة ممكنة. بالنسبة بـ ((سارس)) كان الحيوان المباشر هو قطة ((السيفيت)) التي يأكلها الصينيون والتي تبين إصابتها بالفيروس حديثاً مع حدوث طفرات وراثية في الفيروس وعدم ظهور أعراض مرضية علي هذا الحيوان. وكذلك تم العثور علي الفيروس في حيوانات أخرى منها الخفاش الذي تبين أنه يمثل المستودع الأساسي لفيروسات الكورونا في الطبيعة. اكتشاف الحيوانات الناقلة للمرض أتاح فرصة إغلاق الباب الذي يأتي منه الفيروس إلي الإنسان بمنع الأسواق التي تباع فيها قطة السيفيت. بالنسبة لـ ((ميرس)) اكتشف الباحثون انتشار الأجسام المضادة للفيروس علي مستوي واسع في الإبل كما تم عزل الفيروس من عدة جمال تعرض لها مرضي أصيبوا بمتلازمة الشرق الأوسط وعزلت منهم فيروسات مطابقة، مما يرجح انتقال المرض من الإبل إلي الإنسان في هذه الحالات. هل يتم انتقال الفيروس من الجمال إلي الإنسان فقط بالاتصال المباشر، أي عبر الرذاذ، أم أيضا بواسطة شرب لبنها أو بولها أو أكل لحمها دون إخضاع هذه المنتجات للتعقيم بواسطة البسترة أو الغلي أو الطبخ؟ كم من الحالات حاليا تنتج من الإصابة المباشرة أو غير المباشرة من الجمال؟ الإجابة ليست واضحة ولكن وضع الوباء يحثنا على إتباع الحيطة في التعامل مع الإبل المصابة ومنتجاتها. لماذا لم يتم ملاحظة إصابات ما بين رعاة الإبل؟ بالنسبة لسارس ثبت تعرض بعض مربي قطة السيفيت للعدوى دون أن تظهر عليهم أعراض للمرض. فقط عند اتساع نطاق التعرض للفيروس بين عدد اكبر من الناس، كما في أسواق بيع الحيوانات، كان ظهور المرض بشكل وبائي. الانتقال من شخص إلي آخر كان السبب الأكبر لانتشار السارس بين الناس بعد انتقاله من الحيوان إلي الإنسان. ونفس الشيء يحدث بالنسبة لـ ((ميرس)).

في حالة سارس كان هناك من المرضي من ينقل الفيروس ((بامتياز)) بينما لا ينقله مصابون آخرون إلا بصعوبة. السارس اثبت قدرته على التفشي بين الناس وكان ينذر بوباء عالمي كبير. مع ذلك أوضح التحري الوبائي أن انتقال هذا الفيروس في الأغلب يتطلب الاتصال الوثيق مع المصاب كما في حالة أفراد عائلته المقربين أو

كرونا (ميرس) من عائلة الفيروسات التاجية التي ظهرت في الصين عام 2003م

أفراد الفريق الصحي الذي يقوم بعلاجه وذلك بعكس فيروسات أخرى سريعة الانتشار مثل الأنفلونزا والرشح. هذا الدرس المهم وجه جهود المكافحة إلي التركيز على عزل المرضى واستعمال الكمامات وغسل اليد ونجح في إنهاء وباء السارس خلال عام واحد دون الحاجة إلي علاج أو لقاح. بناء على ذلك باتت التوقعات أن يتم احتواء ((ميرس)) بصورة أسرع، ولذا يشكل استمرار انتشار ميرس بل تضاعف حالاته في الأسابيع الأخيرة مفاجأة غير متوقعة، مما يدعونا إلي التساؤل هل قاد النجاح السريع في احتواء سارس إلي الاستهانة بقدرة ((ميرس)) علي الانتشار؟ علي الرغم من ثبوت انتقال عدوى ((ميرس)) في المستشفيات كما حدث بداية في منطقة الإحساء إلا أن ذلك لم يمنع من تكرار الإصابة مؤخرا في مستشفيات كبيرة بمناطق أخرى مما يشير إلي أن أساليب العزل والوقاية في هذه المستشفيات أقل من المستوى المطلوب.

عدد حالات ميرس لا زال أقل كثيرا من عدد حالات سارس ولكن مع توفر المعرفة عن سببه وطرق انتقاله أصبح التطلع العام هو أن يتم احتواء المرضى بأقصى سرعة ممكنة كما كان الأمر مع سارس أن معرفة المصدر الحيواني التوقع لسارس ومن ثم اكتشاف الخفاش كمستودع للفيروس والجمل كحيوان ناقل للعدوى وثالثا كيف نجح وقف الاتصال بالحيوانات المصابة وإتباع وسائل مكافحة نقل العدوى مثل عزل المرضي ولبس الكمامات والقفازات وغسل اليد في أقسام العناية المركزة في المستشفيات وبين الملاصقين لمرضي في القضاء علي وباء السارس خلال عام واحد دون الحاجة إلي علاج أو لقاح. ومن المرجح أن ينطبق مثل ذلك علي ((ميرس)) إن شاء الله. كان لهذا النجاح الباهر والسريع في احتواء السارس جانب سلبي وهو أنه أدي إلي تباطؤ إلي إلغاء الجهود الرامية إلي إنتاج علاج أو لقاح للمرض حيث ترددت شركات الدواء في صنع منتجات ليست لها سوق مضمونة.

وهكذا لم تكتمل الفرصة أمام العلماء لتجربة وترخيص أدوية أو لقاحات للسارس كان يمكن الاستفادة منها الآن في مواجهة ميرس. وفي الواقع حذر بعض العلماء من خطورة التوقف عن إنتاج هذه المنتجات في حالة عودة سارس أو ظهور فيروس شبيه له، وهو ما حدث فعلا بظهور ميرس. إن الأبحاث والمنتجات لا شك ستفيد كثيرا في التوصل بصورة أسرع إلي منتجات شبيهة لعلاج أو الوقاية من ميرس لو استمر هذا المرض في الانتشار. مع ذلك فلا بد من تدخل الحكومات والمنظمات الصحية العالمية لإزالة تردد الشركات الصانعة الكبرى في الاستثمار في هذا المجال واتخاذ تدابير تضمن لها تغطية تكاليفها. الحاجة الآن كبيرة لحماية المصابين بميرس من تفاقم المرض وحماية المخالطين لهم من أفراد عوائلهم والفريق الصحي الذي يتولي العناية بهم من انتقال العدوى.

من أبرز المنتجات الواعدة الأجسام المناعية المضادة للفيروس. سابقا تم استخدام أجسام مضادة لعلاج مرضي سارس تم تحضيرها من الأشخاص الذين أصيبوا بالسارس ثم شفوا منه، كما تم تحضير مخزون من هذه الأجسام لوقاية العاملين الصحيين في حالة عودة الوباء. لم يكن هناك فرصة كافية لتقييم فعالية هذه الأجسام المناعية، كما كان هناك تخوف من ردود فعل مناعية عكسية تبين حدوثها في بعض المرضى. دفع ذلك إلي تطوير أجسام مضادة بواسطة طرق الهندسة الوراثية لمنع التحام الفيروس بالخلية بدقة كبيرة ومأمونية أعلى مثل التي أعلن مركز دانا فاربر في بوسطن عن إنتاجها مؤخرا لفيروس ميرس.

وقد تكون هذه الأجسام من أوائل المنتجات التي يتم الترخيص لها لمواجهة ميرس. وفي مواجهة السارس تم تجربة عدة عقارات ذات فعالية غير محدودة ضد الفيروسات منها الإنترفيرون والريبافيرين ومثبطات إنزيم البروتييز المستعملة في علاج الإيدز ولكن لم تثبت هذه الأدوية فعاليتها بوضوح. وحتى بعد انتهاء وباء السارس استمر العلماء في تطوير عدة أدوية أخرى من هذا النوع. من ناحية أخرى أدي الفهم المتعمق لمكونات فيروس سارس إلي تطوير منتجات تستهدف تحديداً إنزيمات الفيروس نفسها مثل البروتييز والبوليمريز والهيليكيز زو بروتينات الفيروس الأخرى.

تجاوز عدد هذه المنتجات 11 منتجا، بعضها يعتمد علي تقنيات حديثة للغاية مثل تقنية جزيئات رنا الصغيرة المعترضة (si RNA)، التي لا زالت في بداية استعمالاتها، وقد أثبتت هذه المنتجات فعاليتها في حيوانات التجارب. بالنسبة للقاحات، هناك عدة لقاحات مستخدمة روتينيا ضد أمراض تسببها فيروسات الكورونا في الحيوانات منها عدوى الشعب الهوائية في الطيور وعدوى الجهاز الهضمي في الخنازير ومرض كورونا الكلاب، وقد قام العلماء بتطوير عدة لقاحات للسارس تحتوي علي فيروسات ميتة أو مضعفة أو علي بروتين الغلاف الخارجي للفيروس أو باستخدام تقنيات حديثة كلقاحات د ن ا (DNA vaccines).

ولكن الخبرة مع لقاحات كورونا الحيوانية تدعو إلى التريث لأن بعض اللقاحات تؤدي أحيانا إلي نتائج عكسية كما أن قدرة فيروسات الكورونا علي تبادل جيناتها مع بعض البعض تشكل خطرا آخر من المتوقع أن تتردد الشركات الصانعة في إنتاج لقاح بشري لأن سوقه غير مضمونة. أما إنتاج لقاح للإبل التي تمثل ثروة حيوانية كبيرة لسكان الجزيرة العربية والشرق الأوسط فقد تكون السبيل الأمثل لحماية هذه الحيوانات، ومنع انتقال العدوى منها للإنسان. ختاما الدروس التي تعلمها العالم من سارس كثيرة والمرجو أن يتم تطبيق أكبر قدر من هذه الدروس لوقف ميرس في أسرع وقت ممكن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون